فصل: فصل: (في ضروب العلم)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: اللمع في أصول الفقه ***


‏[‏مقدمة‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، الحمد لله كما هو أهله، وصلواته على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، سألنى بعض اخوانى ان أصنف مختصرا فى المذهب فى أصول الفقه ليكون ذلك مضافا إلى ما عملت من التبصرة، فى الخلاف فأجبته إلى ذلك إيجابا لمسألته وقضاء لحقه، وأشرت فيه إلى ذكر الخلاف وما لابد منه من الدليل، فربما وقع ذلك الى من ليس عنده ماعملت من الخلاف‏.‏ والى الله تعالى أرغب ان يوفقنى للصواب ويجزل لى الأجر والثواب، إنه كريم وهاب‏.‏

ولما كان الغرض بهذا الكتاب أصول الفقه وجب بيان العلم والظن وما يتصل بهما لأن بهما يدرك جميع مايتعلق بالفقه،ثم نذكر النظر والدليل وما يتصل بهما لأن بذلك يحصل العلم والظن،ثم نبين الفقه وأصول الفقه إن شاء الله‏.‏

باب بيان العلم والظن وما يتصل بهما

نقدم على ذلك بيان الحد،لأن به يعرف حقيقة كل ما نريد ذكره‏.‏ والحد هو عبارة عن المقصود بمايحصره ويحيط به إحاطة تمنع أن يدخل فيه ماليس منه أو يخرج منه ما هو منه‏.‏ ومن حكم الحد أن يطرد وينعكس، فيوجد المحدود بوجوده وينعدم بعدمه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في حد العلم‏]‏

فأما العلم فهو معرفة المعلوم على ماهو عليه‏.‏ وقالت المعتزلة هو إعتقاد الشئ على ما هو به مع سكون النفس إليه‏.‏ وهذا غير صحيح، لأن هذا باطل باعتقاد العاصى فيما يعتقده، فإن هذا المعنى موجود فيه وليس ذلك بعلم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ضروب العلم‏]‏

والعلم ضربان‏:‏ قديم ومحدث‏.‏فالقديم علم الله عز وجل، وهو متعلق بجميع المعلومات، ولايوصف بأنه ضرورى ولا مكتسب‏.‏ والمحدث علم الخلق، وقد يكون ضروريا وقد يكون مكتسبا فالضرورى‏:‏ كل علم لزم المخلوق على وجه لايمكنه دفعه عن نفسه بشك ولاشبهة‏.‏ وذلك كالعلم الحاصل عن الحواس الخمس التى هى‏:‏ السمع والبصر والشم والذوق واللمس، والعلم بما تواترت به الأخبار من ذكرالأمم السالفة والبلاد النائية، وما يحصل فى النفس من العلم بحال نفسه من الصحة والسقم والغم والفرح، وما يعلمه من غيره من النشاط والفرح والغم والترح وخجل الخجل ووجل الوجل وما أشبهه مما يضطرإلى معرفته‏.‏ والمكتسب‏:‏ كل علم يقع عن نظر واستدلال كالعلم بحدوث العالم وإثبات الصانع وصدق الرسل ووجوب الصلاة وأعدادها ووجوب الزكاة ونصبها وغير ذلك مما يعلم بالنظر والاستدلال‏.‏

تعريف الجهل والظن‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في حد الجهل‏]‏

وحد الجهل‏:‏ تصور المعلوم على خلاف ماهو به‏.‏ والظن‏:‏ تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر، كاعتقاد الإنسات فيما يخبر به الثقة أنه على ما أخبر به وان جاز ان يكون بخلافه، وظن الإنسان فى الغيم المشف الثخين أنه يجئ منه المطر وان جوز ان يتقشع عن غير مطر، واعتقاد المجتهدين فيما يفتون به فى مسائل الخلاف وان جوزوا أن يكون الأمر بخلاف ذلك وغير ذلك مما لايقطع به‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الشك‏]‏

والشك تجويز أمرين لامزية لأحدهما على الآخر، كشك الإنسان فى الغيم المشف انه يكون منه مطر أم لا، وشك المجتهد فيما لم يقطع به من الأقوال، وغير ذلك من الأمورالتى لايغلب فيها أحد التجويزين على الآخر‏.‏

باب النظر والدليل

والنظر هو الفكر فى حال المنظور فيه‏.‏ وهو طريق الى معرفة الأحكام اذا وجد بشروطه ومن الناس من أنكر النظر،وهذا خطأ لأن العلم يحصل بالحكم عند وجوده، فدل على أنه طريق له‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في شروط الشك‏]‏

وأما شروطه فأشياء‏:‏ أحدها ان يكون الناظر كامل الآلة على ما نذكره فى باب المفتى ان شاء الله تعالى‏.‏ والثانى ان يكون نظره فى دليل لا فى شبهة‏.‏والثالث ان يستوفى الدليل ويرتبه على حقه،فيقدم ما يجب تقديمه ويؤخر ما يجب تأخيره‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الدليل‏]‏

وأما الدليل فهو المرشد الى المطلوب، ولافرق فى ذلك بين ما يقع به من الأحكام وبين مالايقع به‏.‏ قال أكثر المتكلمين لايستعمل الدليل الا فيما يؤدى الى العلم، فأما ما يؤدى الى الظن فلا يقال له دليل وإنما يقال له أمارة‏.‏ وهذا خطأ لأن العرب لا تفرق فى تسمية بين ما يؤدى الى العلم أوالظن، فلم يكن لهذا الفرق وجه‏.‏ وأما الدال‏:‏ فهو الناصب للدليل‏,‏ وهو الله عز وجل‏.‏ وقيل هو والدليل واحد، كالعالم والعليم، وان كان أحدهما أبلغ‏.‏ والمستدل‏:‏ هو الطالب للدليل، ويقع ذلك على السائل لأنه يطلب الدليل من المسئول، وعلى المسئول لأنه يطلب الدليل من الأصول‏.‏ والمستدل عليه‏:‏ هو الحكم الذى هو التحريم والتحليل‏.‏ والمستدل له‏:‏ يقع على الحكم لأن الدليل يطلب له، ويقع على السائل لأن الدليل يطلب له‏.‏ والاستدلال‏:‏هو طلب الدليل، وقد يكون ذلك من السائل للمسئول، وقد يكون من المسئول فى الأصول‏.‏

باب بيان الفقه وأصوله

والفقه معرفة الأحكام الشرعية التى طريقها الاجتهاد‏.‏ والأحكام الشرعية هى‏:‏الواجب والمندوب والمباح والمحظور والمكروه والصحيح والباطل‏.‏ فالواجب ماتعلق العقاب بتركه، كالصلوات الخمس والزكوات وردالودائع والمغصوب وغيرذلك والمندوب مايتعلق الثواب بفعله ولايتعلق العقاب بتركه، كصلوات النفل وصدقات التطوع وغير ذلك من القرب المستحبة‏.‏والمباح ما لاثواب بفعله ولاعقاب بتركه،كأكل الطيب ولبس الناعم والنوم والمشى وغير ذلك من المباحات والمحظور ماتعلق العقاب بفعله، كالزنا واللواط والغصب والسرقة وغير ذلك من المعاصى‏.‏ والمكروه ماتركه أفضل من فعله، كالصلاة مع الإلتفات والصلاة فى أعطان الإبل واشتمال الصماء وغير ذلك مما نهى عنه على وجه التنزيه‏.‏ والصحيح ماتعلق به النفوذ وحصل به المقصود، كالصلوات الجائزة والبيوع الماضية‏.‏ والباطل مالايتعلق به النفوذ ولايحصل به المقصود، كالصلاة بغير طهارة وبيع ما لايملك وغير ذلك مما لايعتد به من الأمور الفاسدة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في أصول الفقه‏]‏

وأما أصول الفقه فهى أدلة الفقه، فهى الأدلة التى يبنى عليها الفقه وما يتوصل بها الى الأدلة على سبيل الاجمال‏.‏ والأدلة ههنا خطاب الله عز وجل وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإقراره وإجماع الأمة والقياس والبقاء على حكم الأصل عند عدم هذه الأدلة وفتيا العالم فى حق العامة، وما يتوصل به الى الأدلة فهو الكلام على تفصيل هذه الأدلة ووجهها وترتيب بعضها على بعض‏.‏ وأول مايبدأ به الكلام على خطاب الله عز وجل وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم،لأنهما أصل لما سواهما من الأدلة، ويدخل فى ذلك أقسام الكلام والحقيقة والمجاز والأمر والنهى والعموم والخصوص والمجمل والمبين والمفهوم والمؤول والناسخ والمنسوخ، ثم الكلام فى أفعال رسول الله صلى عليه وسلم واقراره لأنهما يجريان مجرى أقواله فى البيان،ثم الكلام فى الأخبار لأنها طريق الى معرفة ماذكرناه من الأقوال والأفعال،ثم الكلام فى الإجماع لأنه ثبت كونه دليلا بخطاب الله عز وجل وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنهما ينعقد، ثم الكلام فى القياس لأنه ثبت كونه دليلا بما ذكر من الأدلة و إليها يستند ثم نذكر حكم الأشياء فى الأصل لأن المجتهد إنما يفزع إليه عند عدم هذه الأدلة، ثم نذكر فتيا العالم وصفة المفتى والمستفتى لأنه إنما يصير طريقا للحكم بعد العلم بما ذكرناه، ثم نذكر الإجتهاد وما يتعلق به إن شاء الله‏.‏

باب اقسام الكلام

جميع ما يتلفظ به من الكلام ضربان‏:‏ مهمل ومستعمل‏.‏ فالمهمل مالم يوضع للإفادة‏.‏والمستعمل ما وضع للافادة ‏,‏وذلك ضربان‏:‏ احدهما مايفيد معنى فيما وضع له ‏,‏وهى الألقاب كزيد وعمرو وما أشبهه‏.‏والثانى ما يفيد معنى فيما وضع له ولغيره وذلك ثلاثة أشياء‏:‏ إسم وفعل وحرف على ما يسميه أهل النحو‏.‏ فالاسم كل كلمة دلت على معنى فى نفسها مجرد عن زمان مخصوص كالرجل والفرس والحمار وغير ذلك‏.‏والفعل كل كلمة دلت على معنى فى نفسها مقترن بزمان كقولك ضرب ويقوم وما أشبهه‏.‏والحرف ما لايدل على معنى فى نفسه ودل على معنى فى غيره كمن وإلى وعلى و أمثاله‏.‏ وأقل كلام مفيد ما بنى من اسمين كقولك زيد قائم وعمرو أخوك، أو ما بنى من اسم وفعل كقولك خرج زيد ويقوم عمرو‏.‏ وأما ما بنى من فعلين أو من حرفين أو من حرف واسم أو حرف وفعل فلا يفيد إلا ان يقدر فيه شيء مما ذكرناه كقولك يا زيد فإن معناه أدعو زيدا‏.‏

باب فى الحقيقة والمجاز

والكلام المفيد ينقسم الى حقيقة ومجاز‏.‏ وقد وردت اللغة بالجميع ونزل به القرآن‏.‏ و من الناس من أنكر المجاز فى اللغة، وقال ابن داود ليس فى القرآن مجاز‏.‏ وهذا خطأ لقوله تعالى ‏"‏ جدارا يريد ان ينقض ‏"‏ ونحن نعلم ضرورة أنه لا إرادة للجدار، وقال تعالى ‏"‏ واسئل القرية ‏"‏ ونحن نعلم ضرورة أن القرية لاتخاطب، فدل على أنه مجاز‏.‏فأما الحقيقة فهى الأصل‏.‏ وحدها كل لفظ يستعمل فيما وضع له من غير نقل‏.‏ وقيل ما استعمل فيما أصطلح على التخاطب به‏.‏ وقد يكون للحقيقة مجاز كالبحر حقيقة للماء المجتمع الكثير ومجاز فى الفرس الجواد والرجل العالم‏.‏ فإذا ورد اللفظ حمل على الحقيقة بإطلاقه ولايحمل على المجاز إلا بدليل‏.‏ وقد لايكون له مجاز وهو أكثر اللغات، فيحمل على ما وضع له‏.‏ وأما المجاز فحده ما نقل عما وضع له وقل التخاطب به‏.‏ وقد يكون ذلك بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير واستعارة، فالزيادة كقوله عز وجل ‏"‏ ليس كمثله شيء ‏"‏ والمعنى ليس مثله شيء والكاف زائدة، والنقصان كقوله تعالى ‏"‏ واسئل القرية ‏"‏ والمراد أهل القرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والتقديم والتأخير كقوله عز وجل ‏"‏ والذى أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى ‏"‏ والمراد ‏"‏ أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء ‏"‏ فقدم وأخر،والاستعارة كقوله تعلى ‏"‏جدارا يريد ان ينقض ‏"‏ فاستعار فيه لفظ الإرادة‏.‏وما من مجاز الا وله حقيقة لأنا قد بينا ان المجاز ما نقل عما وضع له، وما وضع له هو الحقيقة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في المجاز‏]‏

ويعرف المجاز من الحقيقة بوجوه‏:‏ منها ان يصرحوا بأنه مجاز، وقد بين أهل اللغة ذلك‏.‏ وصنف أو عبيدة كتاب المجاز فى القرآن وبين جميع ما فيه من المجاز ومنها ان يستعمل اللفظ فيما لايسبق الى الفهم عند سماعه كقولهم فى البليد حمار والأبله تيس‏.‏ ومنها ان يوصف الشيء ويسمى بما يستحيل وجوده كقوله ‏"‏ و اسئل القرية‏"‏‏.‏ومنها أن لايجرى ولايطرد كقولهم فى الرجل الثقيل جبل ثم لايقال ذلك فى غيره ‏,‏ وفى الطويل نخلة ثم لايقال ذلك فى غيرالآدمى‏.‏ ومنها ان لا يتصرف فيما أستعمل فيه كتصرفه فيما وضع له حقيقة كالأمر فى معنى الفعل لاتقول فيه أمر يأمر أمرا كما تقول فى الأمر بمعنى القول‏.‏

باب بيان الوجوه التى تؤخذ منها الأسماء واللغات

اعلم أن الاسماء واللغات تؤخذ من أربع جهات‏:‏ من اللغة والعرف والشرع والقياس‏.‏فأما اللغة فما تخاطب به العرب من اللغات، وهى على ضربين‏.‏ فمنها مايفيد معنى واحدا فيحمل على ما وضع له اللفظ كالرجل والفرس والتمر والبر وغير ذلك‏.‏ ومنها ما يفيد معانى، وهى على ضربين‏:‏ احدهما مايفيد معانى متفقة كاللون يتناول البياض والسواد وسائر الألوان والمشرك يتناول اليهودى والنصرانى، فيحمل على جميع مايتناوله إما على سبيل الجمع إن كان اللفظ يقتضى الجمع أو على كل واحد واحد منه على سبيل البدل إن لم يقتض اللفظ الجمع الا ان يدل الدليل على أن المراد شيء بعينه فيحمل على ما دل عليه الدليل‏.‏ والثانى مايفيد معانى مختلفة كالبيضة تقع على الخوذة وبيض الدجاجة والنعامة والقرء يقع على الحيض والطهر، فإن دل الدليل على ان المراد به واحد منهما بعينه حمل عليه وإن دل الدليل على ان المراد به أحدهما ولم يعين لم يحمل على واحد منهما إلا بدليل إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر‏.‏ وإن لم يدل الدليل على واحد منهما حمل عليهما وقال أصحاب أبى حنيفة وبعض المعتزلة لايجوز حمل اللفط الواحد على معنيين مختلفين‏.‏ والدليل على جواز ذلك أنه لاتنافى بين المعنيين واللفظ يحتملهما فوجب الحمل عليهما كما قلنا فى القسم الذى قبله‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في العرف‏]‏

وأما العرف فهو ما غلب الإستعمال فيه على ما وضع له فى اللغة بحيث اذا أطلق سبق الفهم الى ما غلب عليه دون ماوضع له كالدابة وضع فى الأصل لكل ما دب ثم غلب عليه الاستعمال فى الفرس، والغائط وضع فى الأصل للموضع المطمئن من الأرض ثم غلب عليه الاستعمال فيما يخرج من الإنسان فيصير حقيقة فيما غلب عليه ‏,‏فاذا أطلق حمل على ما يثبت له من العرف‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الشرع‏]‏

واما الشرع فهو ما غلب الشرع فيه على ما وضع له اللفظ فى اللغة بحيث اذا أطلق لم يفهم منه إلا ما غلب عليه الشرع كالصلاة اسم للدعاء فى اللغة ثم جعل فى الشرع إسما لهذه المعروفة والحج إسم للقصد ثم نقل فى الشرع إلى هذه الأفعال فصار حقيقة فيما غلب عليه الشرع، فاذا أطلق حمل على مايثبت له من عرف الشرع‏.‏ ومن أصحابنا من قال ليس فى الأسماء شيء منقول الى الشرع بل كلها مبقاة على موضوعها فى اللغة فالصلاة اسم للدعاء وانما الركوع والسجود زيادات أضيفت الى الصلاة وليست من الصلاة كما أضيفت إليها الطهارة وليست منها، وكذلك الحج اسم للقصد والطواف والسعى زيادات اضيفت الى الحج وليست من الحج، فاذا أطلق اسم الصلاة حمل على الدعاء واذا أطلق اسم الحج حمل على القصد‏.‏ وهو قول الاشعرية والأول أصح‏.‏ والدليل عليه أن هذه الأسماء اذا أطلقت فى الشرع لم يعقل منها المعانى التى وضعت لها فى اللغة فدل على أنها منقولة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ما إذا ورد لفظ قد وضع فى اللغة لمعنى وفى العرف لمعنى‏]‏

إذا ورد لفظ قد وضع فى اللغة لمعنى وفى العرف لمعنى حمل على ما ثبت له فى العرف لأن العرف طارئ على اللغة، فكان الحكم له‏.‏ وان كان قد وضع فى اللغة لمعنى وفى الشرع لمعنى حمل على عرف الشرع، لانه طارئ على اللغة، ولأن القصد بيان حكم الشرع، فالحمل عليه أولى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في القياس‏]‏

وأما القياس فهو مثل تسمية اللواط زنا قياسا على وطء النساء وتسمية النبيذ خمرا قياسا على عصير العنب‏.‏ وقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال يجوز إثبات اللغات والأسماء بالقياس، وهو قول أبى العباس و أبى على بن أبى هريرة‏.‏ومنهم من قال لايجوز ذلك‏.‏والأول أصح لأن العرب سمت ما كان فى زمانها من الأعيان بأسماء ثم انقرضوا وانقرضت تلك الأعيان وأجمع الناس على تسمية أمثالها بتلك الأسماء، فدل على أنهم قاسوها على الأعيان التى سموها‏.‏

الكلام فى الأمر والنهى

باب القول فى بيان الامر وصيغته

إعلم ان الأمر قول استدعى به الفعل ممن هو دونه‏.‏ ومن أصحابنا من زاد فيه على سبيل الوجوب‏.‏ فأما الأفعال التى ليست بقول فإنها تسمى أمرا على سبيل المجاز‏.‏ ومن أصحابنا من قال ليس بمجاز‏.‏ قال الشيخ الإمام أيده الله وقد نصرت ذلك فى التبصرة‏.‏والاول أصح، لأنه لو كان حقيقة فى الفعل كما هو حقيقة فى القول لتصرف فى الفعل كما تصرف فى القول، فيقال أمر يأمر كما يقال ذلك اذا أريد به القول‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في شبه الأمر‏]‏

وكذلك ماليس فيه استدعاء كالتهديد، مثل قوله عز وجل ‏"‏ اعملوا ما شئتم ‏"‏، والتعجيز كقوله تعالى ‏"‏ قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ‏"‏، والإباحة مثل قوله عز وجل ‏"‏واذا حللتم فاصطادوا ‏"‏ فذلك كله ليس بأمر‏.‏ وقال البلخى من المعتزلة الإباحة أمر‏.‏ وهذا خطأ لأن الإباحة هى الإذن، وذلك لايسمى أمرا ألا ترى أن العبد اذا استأذن مولاه فى الاستراحة وترك الخدمة فأذن له فى ذلك لايقال إنه أمره بذلك‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ‏]‏

وكذلك ما كان من النظير للنظير‏,‏ ومن الأدنى للأعلى، فليس بأمر وان كان صيغته صيغة أمر، وذلك كقول العبد لربه ‏"‏اغفر لى وارحمنى‏"‏ فإن ذلك مسألة ورغبة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الاستدعاء‏]‏

واما الإستدعاء على وجه الندب فليس بأمر حقيقة ومن أصحابنا من قال هو أمر حقيقة‏.‏ والدليل على أنه ليس بأمر قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ‏"‏، ومعلوم أن السواك عند كل صلاة مندوب اليه، وقد أخبر أنه لم يأمر به ‏,‏ فدل على أن المندوب اليه غير مأمور به‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في صيغة الأمر‏]‏

للأمر صيغة موضوعة فى اللغة تقتضى الفعل، وهو قوله ‏"‏ أفعل ‏"‏، وقالت الأشعرية ليست للأمر صيغة‏.‏ والدليل على أن له صيغة‏:‏ ان أهل اللسان قسموا الكلام، فقالوا فى جملتها أمر ونهى‏.‏ فالأمر قولك ‏"‏ افعل‏"‏ والنهى قولك ‏"‏ لاتفعل‏"‏، فجعلوا قوله ‏"‏ افعل ‏"‏ بمجرده أمرا، فدل على أن له صيغة‏.‏

باب ما يقتضى الأمر من الإيجاب

إذا تجردت صيغة الأمر اقتضت الوجوب فى قول أكثر اصحابنا‏.‏ ثم اختلف هؤلاء، فمنهم من قال يقتضى الوجوب بوضع اللغة، ومنهم من قال يقتضى الوجوب بالشرع‏.‏ ومن أصحابنا من قال يقتضى الندب‏.‏ وقال بعض الأشعرية لايقتضى الوجوب ولاغيره الا بدليل‏.‏ وقال المعتزلة الأمر يقتضى إرادة الفعل؛ فان كان ذلك من حكيم إقتضت الندب، وان كان من غيره لم يقتض أكثر من الإرادة‏.‏ والدليل على أنها تقتضى الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ‏"‏، فدل على أنه لو أمر لوجب ولو شق، ولأن السيد من العرب اذا قال لعبده ‏"‏ إسقنى ماء ‏"‏ فلم يسقه استحق الذم والتوبيخ، فلو لم يقتض الوجوب لما استحق الذم عليه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في صيغة الأمر‏]‏

سواء وردت هذه الصيغة ابتداء أو وردت بعد الحظر، فإنها تقتضى الوجوب‏.‏ وقال أصحابنا اذا وردت بعد الحظر اقتضت الإباحة‏.‏ والدليل على انها تقتضى الوجوب ان كل لفظ اقتضى الإيجاب اذا لم يتقدمه حظر اقتضى الإيجاب وان تقدمه حظر كقوله أوجبت وفرضت‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الأمر لغير الوجوب‏]‏

اذا دل الدليل على انه لم يرد بالأمر الوجوب لم يجزالإحتجاج به فى الجواز ومن أصحابنا من قال يجوز‏.‏ والأول أظهر لأن الأمر لم يوضع للجواز، وإنما وضع للإيجاب، والجواز يدخل فيه على سبيل التبع، فإذا سقط الوجوب سقط مادخل فيه على التبع‏.‏

باب فى أن الأمر يقتضى الفعل مرة واحدة أو التكرار

اذا وردت صيغة الأمر لإيجاب فعل وجب العزم على الفعل، ويجب تكرار ذلك كلما ذكر الأمر، لأنه اذا ذكر ولم يعزم على الفعل صار مصرا على العناد، وهذا لايجوز‏.‏ وأما الفعل المأمور به؛ فإن كان فى اللفظ ما يدل على تكراره وجب تكراره، وإن كان مطلقا ففيه وجهان، ومن أصحابنا من قال يجب تكراره على حسب الطاقة، ومنهم من قال لايجب أكثر من مرة واحدة الا بدليل يدل على التكرار، وهو الصحيح‏.‏ والدليل على ان اطلاق الفعل يقتضى ما يقع عليه الإسم ألا ترى أنه لو حلف ليفعلن بر بمرة واحدة، فدل على ان الاطلاق لايقتضى أكثر من ذلك‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تعليق الأمر بشرط‏]‏

فأما اذا علق الأمر بشرط؛ بأن يقول اذا زالت الشمس، فهل يقتضى التكرار‏؟‏، ان قلنا ان مطلق الأمر يقتضى التكرار فالمعلق بالشرط مثله وان قلنا ان مطلقه لايقتضى التكرار ففى المعلق بالشرط وجهانومن أصحابنا من قال يقتضى التكرار كلما تكرر الشرط‏.‏ ومنهم من قال لايقتضى‏.‏ وهو الأصح، لأن كل ما لايقتضى التكرار اذا كان مطلقا لم يقتض التكرار اذا كان بالشرط كالطلاق؛ لافرق بين أن يقول ‏"‏ أنت طالق ‏"‏ وبين أن يقول ‏"‏ اذا زالت الشمس فأنت طالق ‏"‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تكرر الأمر بالفعل الواحد‏]‏

فأما اذا تكرر الأمر بالفعل الواحد، بأن قال‏"‏ صل ‏"‏ ثم قال ‏"‏صل ‏"‏؛ فإن قلنا إن مطلق الأمر يقتضى التكرار فتكرار الأمر يقتضى التأكيد، وان قلنا انه يقتضى الفعل مرة واحدة ففى التكرار وجهان‏:‏ احدهما انه تأكيد، وهو قول الصيرفى‏.‏ والثانى انه استئناف، وهو الصحيح‏.‏ والدليل عليه ان كل واحد من الأمرين يقتضى إيجاد الفعل عند الإنفراد، فاذا اجتمعا أوجبا التكرار كما لو كان فعلين‏.‏

باب فى أن الأمر هل يقتضى الفعل على الفور أم لا

إذا ورد الأمر بالفعل مطلقا وجب العزم على الفعل على الفور،كما مضى فى الباب قبله وهل يقتضى الفعل على الفور‏؟‏ بنيت على التكرار؛ فإن قلنا ان الأمر يقتضى التكرار على حسب الاستطاعة وجب على الفور، لأن الحالة الأولى داخلة فى الإستطاعة، فلايجوز اخلاؤها من الفعل؛ وإن قلنا ان الأمر يقتضى مرة واحدة، فهل يقتضى ذلك على الفور أم لا فيه وجهان لأصحابنا‏:‏ أحدهما انه لايقتضى الفعل على الفور‏.‏ ومن أصحابنا من قال يقتضى ذلك على الفور، وهو قول الصيرفى والقاضى أبى حامد‏.‏ والأول أصح، لأن قوله إفعل يقتضى إيجاد الفعل من غير تخصيص بالزمان الأول دون الثانى، فإذا صار ممتثلا بالفعل فى الزمان الأول، وجب أن يصير ممتثلا بالفعل فى الزمان الثانى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ورود الأمر مقيدا بزمان‏]‏

فأما اذا ورد الأمر مقيدا بزمان نظرت؛ فإن كان الزمان يستغرق العبادة كالصوم فى شهر رمضان لزمه فعلها على الفور عند دخول الوقت، وإن كان الزمان أوسع من قدر العبادة كصلاة الزوال مابين الظهر الى ان يصير ظل كل شيء مثله وجب الفعل فى أول الوقت وجوبا موسعا، ثم اختلفوا هل يجب العزم فى أول الوقت بدلا عن الصلاة‏؟‏ فمنهم من لم يوجب‏.‏ ومنهم من أوجب العزم بدلا عن الفعل فى أول الوقت‏.‏ وقال أبوالحسن الكرخى يتعلق الوجوب بأحد شيئين‏:‏ إما بالفعل أو بأن يضيق الوقت‏.‏ وقال أكثر أصحاب أبى حنيفة يتعلق الوجوب بآخر الوقت‏.‏ واختلف هؤلاء فيمن صلى فى اول الوقت‏:‏ فمنهم من قال إن ذلك نفل؛ فإن جاء آخر الوقت وليس من أهل الوجوب فلا كلام فى أن ما فعله كان نفلا ‏,‏ وإن كان من أهل الوجوب منع ذلك النفل الذى فعله من توجه الفرض عليه فى آخر الوقت‏.‏ ومنهم من قال فعله فى أول الوقت مراعى فإن جاء آخر الوقت وهو من أهل الوجوب علمنا انه فعل واجبا، وان لم يكن من أهل الوجوب علمنا انه فعل نفلا‏.‏ والدليل على ماقلناه ان المقتضى للوجوب هو الأمر وقد تناول ذلك أول الوقت بقوله‏:‏ ‏"‏ أقم الصلاة لدلوك الشمس ‏"‏ فوجب ان يجب فى أوله‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في فوات الوقت‏]‏

فإن فات الوقت الذى علق عليه العبادة فلم يفعل، فهل يجب القضاء أم لا‏؟‏ فيه‏:‏ وجهان، من أصحابنا من قال يجب، ومنهم من قال لايجب الا بأمر ثان، وهو الأصح، لأن ما بعد الوقت لم يتناوله الأمر، فلا يجب الفعل فيه كما قبل الوقت‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في التوقيت‏]‏

اذا أمر بأمر بعبادة فى وقت معين ففعلها فى ذلك الوقت سمى أداء على سبيل الحقيقة، ولايسمى قضاء الا مجازا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا فى الأرض ‏"‏‏.‏ أما اذا دخل فيها فأفسدها أو نسي شرطا من شروطها فأعادها والوقت باق سمى إعادة وأداء، وان فات الوقت ففعلها بعد فوات الوقت سمى قضاء‏.‏

باب الأمر بأشياء هلى جهة التخيير والترتيب

اذا خير الله تعالى بين أشياء، مثل كفارة اليمين؛ خير فيها بين العتق والإطعام والكسوة، فالواجب منها واحد غير معين؛ فأيها فعل فقد فعل الواجب، وان فعل الجميع سقط الفرض عنه بواحد منها، والباقى تطوع‏.‏ وقالت المعتزلة الثلاثة كلها واجبة؛ فإن أرادوا بوجوب الجميع تساوى الجميع فى الخطاب، فهو وفاق، وإنما يحصل الخلاف فى العبارة دون المعنى‏.‏ وإن أرادوا بوجوب الجميع أنه مخاطب بفعل الجميع، فالدليل على فساده أنه اذا ترك الجميع لم يعاقب على الجميع، ولو كان الجميع واجبا لعوقب على الجميع، فلما لم يعاقب إلا على واحد دل على انه هو الواجب‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الأمر بأشياء على الترتيب‏]‏

فأما اذا أمر بأشياء على الترتيب كالمظاهر؛ أمر بالعتق عند وجود الرقبة وبالصيام عند عدمها وبالإطعام عند العجز عن الجميع فالواجب من ذلك واحد معين على حسب حاله؛ فان كان موسرا ففرضه العتق، وان كان معسرا ففرضه الصيام، وان كان عاجزا ففرضه الإطعام‏.‏ فإن جمع من فرضه العتق بين الجميع سقط الفرض عنه بالعتق وما عداه تطوع، وان جمع من فرضه الصيام بين الجميع ففرضه أحد الأمرين من العتق أو الصيام، والإطعام تطوع‏.‏ وان جمع من فرضه الإطعام بين الجميع ففرضه واحد من الثلاثة كالكفارة المخيرة‏.‏

باب ايجاب ما لايتم المأمور الا به

اذا أمر بفعل ولم يتم ذلك الفعل الا بغيره نظرت؛ فإن كان ذلك الأمر مشروطا بذلك الغير كالاستطاعة فى الحج والمال فى الزكاة لم يكن الأمر بالحج والزكان أمرا بتحصيل ذلك، لأن الأمر بالحج لم يتناول من لا استطاعة له وفى الزكاة من لا مال له، فلو ألزمناه تحصيل ذلك ليدخل فى الأمر لأسقطنا شرط الأمر، وهذا لايجوز‏.‏ وان كان الأمر مطلقا غير مشروط كان الأمر بالفعل أمرا به وبما لا يتم الا به، و ذلك كالطهارة للصلاة، الأمر بالصلاة أمر بالطهارة، أو كغسل شيء من الرأس لاستيفاء الفرض عن الوجه‏.‏ فلو لم يلزمه ما يتم به الفعل المأمور به أسقطنا الوجوب فى المأمور‏.‏ولهذا قلنا فيمن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة ولم يعرف عينها أنه يجب عليه قضاء خمس صلوات لتدخل المنسية فيها‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الأمر بصفة العبادة‏]‏

وأمااذا أمر بصفة عبادة؛ فإن كانت الصفة واجبة كالطمأنينة فى الركوع، دل على وجوب الركوع، لأنه لا يمكنه ان يأتى بالصفة الواجبة الا بفعل الموصوف، وان كانت الصفة ندبا كرفع الصوت بالتلبية لم يدل ذلك على وجوب التلبية‏.‏ ومن الناس من قال تدل على وجوب التلبية، وهذا خطأ لأنه قد يندب الى صفة ما هو واجب وما هو ندب فلم يكن فى الندب دليل على وجوب الأصل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في أن الأمر بشيء نهي عن ضده‏]‏

واذا أمر بشيء كان ذلك نهيا عن ضده من جهة المعنى؛ فان كان ذلك الأمر واجبا كان النهى عن ضده على سبيل الوجوب، وان كان ندبا كان النهى عن ضده على سبيل الندب‏.‏ ومن أصحابنا من قال ليس بنهى عن ضده، وهو قول المعتزلة‏.‏ والدليل على ماقلناه انه لايتوصل الى فعل المأمور الا بترك الضد فهو كالطهارة فى الصلاة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الأمر باجتناب شيء‏]‏

فأما اذا أمر باجتناب شيء ولم يمكنه الإجتناب الا باجتناب غيره فهذا على ضربين‏:‏ أحدهما ان يكون فىاجتناب الجميع مشقة فيسقط حكم المحرم فيه فيسقط عنه فرض الإجتناب وهو كمااذا وقع فى الماء الكثير نجاسة أو اختلطت أخته بنساء بلد، فلا يمنع من الوضوء بالماء ولا من نكاح نساء ذلك البلد‏.‏ والثانى ان لايكون فى اجتناب الجميع مشقة، فهذا على ضربين‏:‏ أحدهما ان يكون المحرم مختلطا بالمباح كالنجاسة فى الماء القليل، والجارية المشتركة بين الرجلين، فيجب اجتناب الجميع‏.‏ والثانى ان يكون غير مختلط إلا أنه لايعرف المباح بعينه، فهذا على ضربين‏:‏ ضرب يجوز فيه التحرى، وهو كالماء الطاهر اذا اشتبه بالماء النجس فيتحرى فيه، وضرب لايجوز فيه التحرى وهو الأخت اذا اختلطت بأجنبية، والماء اذا اشتبه بالبول، فيجب اجتناب الجميع‏.‏

باب فى أن الأمر يدل على إجزاء المأمور به

واعلم أنه اذا أمر الله تعالى بفعل لم يخل المأمور إما ان يفعل المأمور به على الوجه الذى تناوله الأمر أو يزيد على ما تناوله الأمر أو ينقص فإن فعلعلىالوجه الذى تناوله الأمر أجزأه ذلك بمجرد الأمر‏.‏ وقال بعض المعتزلة الأمر لايدل على الإجزاء، بل يحتاج الآخر الى دليل آخر‏.‏ وهذا خطأ، لأنه قد فعل المأمور به على الوجه الذى تناوله الأمر، فوجب ان يعود الى ما كان قبل الأمر‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ما إذا زاد على المأمور‏]‏

فأما اذا زاد على المأمور، بأن يأمره بالركوع فيزيد على ما يقع عليه الإسم سقط الفرض عنه بأدنى مايقع عليه الإسم، والزيادة على ذلك تطوع لايدخل فى الأمر‏.‏ وقال بعض الناس الجميع واجب داخل فى الأمر‏.‏وهذا باطل لأن ما زاد على الإسم يجوز له تركه على الاطلاق، فاذا فعله لم يكن واجبا كسائر النوافل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ما إذا نقص عن المأمور‏]‏

فأما اذا نقص عن المأمور نظرت، فإن نقص منه ما هوشرط فى صحته كالصلاة بغير قراءة لم يجزه، ولم يدخل فى الأمر، لأنه لم يأت بالمأمور على الوجه الذى أمر به‏.‏ وإن نقص منه ماليس بشرط كالتسمية فى الطهارة أجزأه فى المأمور به، وهل يدخل ذلك فى الأمر‏؟‏ الظاهر من قول أصحابنا أنه لايدخل فى الأمر، وقال أصحاب أبى حنيفة يدخل فى الأمر‏.‏ وهذا غير صحيح، لأن المكروه منهى عنه، فلا يجوز أن يدخل فى لفظ الأمر كالمحرم‏.‏

باب من يدخل فى الأمر ومن لايدخل فيه

اعلم ان الساهى لايجوز ان يدخل فى الأمر والنهى، لأن القصد الى التقرب بالفعل والترك يتضمن العلم به حتى يصح القصد اليه، وهذا يستحيل فى حق الناسى، ألا تري انه لو قيل له ‏"‏ لا تتكلم فى صلاتك وأنت ساه ‏"‏ لوجب ان يقصد الى ترك ما يعلم انه ساه فيه، وعلمه بأنه ساه يمنع كونه ساهيا، فبطل خطابه على هذه الصفة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في خطاب النائم والمجنون‏]‏

وكذلك لايجوز خطاب النائم ولا المجنون ولا السكران لأنه لو جاز خطابهم مع زوال العقل لجاز خطاب البهيمة والطفل فى المهد، وهذا لا يقوله أحد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في خطاب المكره‏]‏

وأما المكره فيصح دخوله فى الخطاب والتكليف‏.‏ وقالت المعتزلة لايصح دخوله تحت التكليف‏.‏ وهذا خطأ، لأنه لو لم يصح تكليفه لما كلف ترك القتل مع الإكراه، ولأنه عالم قاصد الى ما يفعله، فهو كغير المكره‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في خطاب الصبي‏]‏

وأما الصبى فلا يدخل فى خطاب التكليف، فإن الشرع قد ورد بإسقاط التكليف عنه‏.‏ وأما إيجاب الحقوق فى ماله فيجوز ان يدخل فيه كالزكوات والنفقات، فإن التكليف والخطاب فى ذلك على وليه دونه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في خطاب العبيد‏]‏

وأما العبيد فإنهم يدخلون فى الخطاب‏.‏ ومن أصحابنا من قال لايدخلون فى خطاب الشرع الا بدليل‏.‏ وهذا خطأ، لأن الخطاب يصلح لهم كما يصلح للأحرار‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في خطاب الكفار‏]‏

وأما الكفار فإنهم يدخلون أيضا فى الخطاب‏.‏ ومن أصحابنا من قال لايدخلون فى الشرعيات‏.‏ ومن الناس من قال يدخلون فى المنهيات دون المأمورات‏.‏ والدليل على أنهم يدخلون فى الجميع قوله عز وجل ‏"‏ ماسلككم فى سقر قالوا لم نك من المصلين ‏"‏، ولو لم يكونوا مخاطبين بالصلاة لما عاقبهم عليها، ولأن صلاح الخطاب لهم كصلاحه للمسلمين، فكما دخل المسلمون وجب أن يدخل الكفار‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في النساء‏]‏

وأما النساء فإنهن لايدخلن فى خطاب الرجال‏.‏ وقال أبو بكر بن داود وأصحاب أبى حنيفة يدخلن وهذا خطأ، لأن للنساء لفظا مخصوصا، كما أن للرجال لفظا مخصوصا،‏.‏كما أن للرجال لفظا مخصوصا، فكما لم تدخل الرجال فى خطاب النساء لم تدخل النساء فى خطاب الرجال‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏

وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يدخل فى كل خطاب خوطب به الأمة كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا ‏"‏ وغير ذلك لأن صلاح اللفظ له كصلاحه لكل أحد من الأمة، فكما دخلت الأمة دخل النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأما اذا خوطب النبى صلى الله عليه وسلم بخطاب خاص لم يدخل معه غيره الا بدليل كقوله تعالى‏:‏‏"‏ يا أيها النبى ويا أيها المزمل قم الليل ‏"‏وقوله‏:‏ ‏"‏ يا أيها النبى قل لأزواجك ‏"‏‏.‏ ومن الناس من قال ما ثبت أنه شرع له دخل غيره معه فيه، وهذا خطأ لأن الخطاب مقصور عليه، فمن زعم ان غيره يدخل فيه فقد خالف مقتضى الخطاب‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ما إذا أمر صلى الله عليه وسلم أمته بشيء‏]‏

فأما اذا أمر صلى الله عليه وسلم أمته بشيء لم يدخل هو فيه ومن أصحابنا من قال يدخل فيما يأمر به الأمة‏.‏ وهذا خطأ لأن ماخاطب به الأمة من الخطاب لايصح له، فلا يجوز ان يدخل فيه من غير دليل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ما خاطب الله عز وجل به الخلق خطاب المواجهة‏]‏

وأما ما خاطب الله عز وجل به الخلق خطاب المواجهة كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا ‏"‏ فإنه لايدخل فيه سائر من لم يخلق من جهة الصيغة واللفظ، لأن هذا الخطاب لايصلح الا لمن هو موجود على الصفة متى ذكرها‏.‏ فأما من لم يخلق فلا يصلح له هذا الخطاب، وكذلك اذا خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطاب لم يدخل غيره فيه من جهة اللفظ لان الذى خاطبه به لايتناول غيره، وانما يدخل الغير فى حكم ذلك الخطاب بدليل وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ حكمى على الواحدحكمى على الجماعة ‏"‏ والقياس وهو ان يوجد المعنى الذى حكم به فيمن حكم عليه فى غيره فيقاس عليه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ورود الخطاب بلفظ العموم‏]‏

اذا ورد الخطاب بلفظ العموم دخل فيه كل من صلح له الخطاب، ولايسقط ذلك الفعل عن بعضهم بفعل البعض الا فيما ورد الشرع به وقرره أنه فرض كفاية كالجهاد وتكفين الميت والصلاة عليه ودفنه فإنه اذا قام به من يقع به الكفاية سقط عن الباقين‏.‏

باب بيان الفرض والواجب والسنة والندب

والواجب والفرض والمكتوبة واحد، وهو ما يتعلق العقاب بتركه‏.‏ وقال أصحاب أبى حنيفة الواجب ما ثبت وجوبه بدليل مجتهد فيه كالوتر والأضحية عندهم، والفرض ماثبت وجوبه بدليل مقطوع به كالصلوات الخمس والزكوات المفروضة وما أشبهها‏.‏ وهذا خطأ لأن طريق الأسماء الشرع واللغة والإستعمال، وليس فى شيء من ذلك فرق بين ما ثبت بدليل مقطوع به أو بطريق مجتهد فيه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في السنة‏]‏

وأما السنة فما رسم ليحتذى به على سبيل الإستحباب ‏,‏ وهى والنفل والندب بمعنى واحد‏.‏ ومن الناس من قال السنة ماترتب كالسنن الراتبة مع الفرائض، والنفل والندب ما زاد على ذلك‏.‏ وهذا لايصح لأن كل ما ورد الشرع باستحبابه فهو سنة سواء كان راتبا أو غير راتب، فلا معنى لهذا الفرق‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في قول الصحابي‏]‏

اذا قال الصحابى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وجب قبوله ويصير كما لو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت بكذا، وقال داود لايقبل حتى ينقل لفظه‏.‏ والدليل على ما قلناه هو ان الراوى مصدق فيما يرويه وهو عارف بالأمر والنهى لأنه لغته فوجب ان يقبل كسائر ما يرويه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في حمل السنة على سنة النبي‏]‏

وكذلك إن قال من السنة كذا حمل على سنة النبى صلى الله عليه وسلم، وأما اذا قال أمر فلان بكذا أو أمرنا أو نهينا ولم يسم الآمر حمل ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أصحاب أبى حنيفة لا يحمل على ذلك الا بدليل، وهو قول أبى بكر الصيرفى‏.‏ وهذا غير صحيح لأن الذى يحتج بأمره ونهيه وسنته هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أطلق الصحابى ذلك وجب ان يحمل عليه‏.‏

باب القول فى النهى

فصل‏:‏ ‏[‏في النهى‏]‏

النهى يقارب الأمر فى أكثر ماذكرناه، الا أنى أشير اليه على جهة الاختصار وأبين ما يخالف الأمر فيه ان شاء الله تعالى وبه الثقة‏.‏ فأما حقيقته فهو القول الذى يستدعى به ترك الفعل ممن هو دونه‏.‏ ومن أصحابنا من زاد على سبيل الوجوب كما ذكرناه فى الأمر‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في صيغة النهي‏]‏

وله صيغة تدل عليه فى اللغة، وهوقوله‏"‏ لا تفعل‏"‏‏.‏ وقالت الأشعرية ليس له صيغة، وقد مضى الدليل عليه فى الأمر‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تجرد صيغة النهي‏]‏

واذا تجردت صيغته اقتضت التحريم‏.‏ وقالت الأشعرية لاتقتضى التحريم ولاغيره الا بدليل‏.‏ والدليل على ماقلناه ان السيد من العرب اذا قال لعبده ‏"‏ لاتفعل كذا ‏"‏ ففعل استحق الذم والتوبيخ، فدل على انه يقتضى التحريم‏.‏

فصل ثان‏:‏ ‏[‏في تجرد صيغة النهي‏]‏

واذا تجردت صيغته اقتضت الترك على الدوام وعلى الفور، بخلاف الأمر‏.‏ وذلك ان الأمر يقتضى ايجاد الفعل فاذا فعل مرة فى أى زمان فعل سمى ممتثلا، وفى النهى لايسمى منتهيا الا اذا سارع الى الترك على الدوام‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ضد المنهي عنه‏]‏

واذا نهى عن شيء فإن كان له ضد واحد فهو امر بذلك الضد كالصوم فى العيدين، وان كان له أضداد كالزنا فهو أمر بضد من أضداده، لأنه لايتوصل الى ترك المنهى عنه الا بما ذكرناه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في نظير المنهي عنه‏]‏

واذا نهى عن أحد شيئين كان ذلك نهيا عن الجمع بينهما، ويجوز له فعل أحدهما‏.‏ وقالت المعتزلة يكون ذلك نهيا عنهما، فلا يجوز فعل واحد منهما‏.‏ والدليل على ما قلناه هو ان النهى أمر بالترك كما ان الأمر أمر بالفعل، ثم الأمر بفعل احدهما لايقتضى وجوبهما، فكذلك الأمر بترك أحدهما لايقتضى وجوب تركهما‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في فساد المنهى عنه‏]‏

والنهى يدل على فساد المنهى عنه فى قول أكثر أصحابنا كما يدل الأمر على إجزاء المأمور به‏.‏ ثم اختلف هؤلاء‏:‏ فمنهم من قال يقتضى الفساد من جهة الوضع فى اللغة‏.‏ ومنهم من قال يقتضى الفساد من جهة الشرع‏.‏ ومن أصحابنا من قال النهى لايدل على الفساد، وحكى عن الشافعى رحمه الله مايدل عليه، وهو قول طائفة من أصحاب أبى حنيفة وأكثر المتكلمين‏.‏ واختلف القائلون بذلك فى الفصل بين ما يفسد وبين ما لا يفسد‏.‏ فقال بعضهم إن كان فى فعل المنهى إخلال بشرط فى صحته إن كان عبادة أو فى نفوذه إن كان عقدا وجب القضاء بفساده‏.‏ وقال بعضهم إن كان النهى يختص بالفعل المنهى عنه كالصلاة فى المكان النجس اقتضى الفساد، و إن لم يختص المنهى عنه كالصلاة فى الدار المغصوبة لم يقتض الفساد‏.‏ والدليل على أن النهى يقتضى الفساد على الإطلاق إنه اذا أمر بعبادة مجردة عن النهى ففعل على وجه منهى عنه فإنه لم يأت بالمأمور على الوجه الذى اقتضاه الأمر فوجب أن تبقى العبادة عليه كما كانت‏.‏

باب القول فى العموم والخصوص

باب ذكر حقيقة العموم وبيان مقتضاه

والعموم كل لفظ عم شيئين فصاعدا، وقد يكون متناولا لشيئين كقولك عممت زيدا وعمرا بالعطاء، وقد يتناول جميع الجنس كقولك عممت الناس بالعطاء‏.‏ و أقله مايتناول شيئين ‏,‏ وأكثره ما إستغرق الجنس‏.‏

فصلوألفاظه أربعة أنواع‏:‏ أحدها اسم الجمع اذا عرف بالألف واللام كالمسلمين والمشركين والأبرار والفجار وما أشبه ذلك، وأما المنكر منه كقولك مسلمون ومشركون و أبرار وفجار فلا يقتضى العموم‏.‏ ومن أصحابنا من قال هو للعموم، وهو قول أبى على الجبائى‏.‏ والدليل على فساد ذلك أنه نكرة فلم يقتض الجنس كقولك رجل ومسلم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في اسم الجنس‏]‏

والثانى اسم الجنس اذا عرف بالألف واللام كقولك الرجل والمسلم‏.‏ ومن أصحابنا من قال هو للعهد دون الجنس‏.‏ والدليل على أنه للجنس قوله عز وجل ‏"‏والعصر ان الإنسان لفى خسر ‏"‏ والمراد به الجنس، ألا ترى انه إستثنى منه الجمع فقال ‏"‏ إلا الذين آمنوا ‏"‏ وتقول العرب ‏"‏ أهلك الناس الدينار والدرهم ‏"‏ و يريدون الجنس‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الأسماء المبهمة‏]‏

والثالث الأسماء المبهمة، وذلك من فيمن يعقل وما فيما لايعقل فى الإستفهام والشرط والجزاء، تقول فى الإستفهام ‏"‏ من عندك وما عندك ‏"‏، وفى الجزاء تقول ‏"‏من أكرمنى أكرمته ومن جاءنى رفعته ‏"‏، وأى فيما يعقل وفيما لايعقل فى الاستفهام وفى الشرط والجزاء، تقول فى الاستفهام ‏"‏ أى شيء عندك ‏"‏، وفى الشرط والجزاء ‏"‏ أى رجل أكرمنى أكرمته ‏"‏، وأين وحيث فى المكان، ومتى فى الزمان تقول ‏"‏ إذهب اين شئت وحيث شئت واطلبنى متى شئت ‏"‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في النفى‏]‏

والرابع النفى فى النكرات تقول ‏"‏ ماعندى شيء ‏"‏ و‏"‏ لارجل فى الدار ‏"‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في أقل الجمع‏]‏

أقل الجمع ثلاثة، فإذا ورد لفظ الجمع كقوله مسلمون ورجال حمل على ثلاثة‏.‏ ومن أصحابنا من قال هو إثنان، وهو قول مالك وابن داود ونفطويه وطائفة من المتكلمين‏.‏ والدليل على ماقلناه ان ابن عباس رضى الله عنهما احتج على عثمان رضى الله عنه فى حجب الأم بالإخوين وقال ليس الإخوان إخوة فى لسان قومك، فقال عثمان لا أستطيع ان انقض أمرا كان قبلى وتوارثه الناس ومضى فىالأمصار فادعى ابن عباس ان الإخوين ليس بإخوة، فأقره عثمان كرم الله وجهه على ذلك، وإنما اعتذر عنه بالإجماع، ولإنهم فرقوا بين الواحد والإثنين والجمع فقالوا رجل ورجلان ورجال، فلو كان الإثنان جمعا كالثلاثة لما خالفوا بينهما فى اللفظ‏.‏

باب صيغة العموم وبيان مقتضاه

اذا تجردت ألفاظ العموم التى ذكرناها اقتضت العموم واستغراق الجنس والطبقة‏.‏ وقالت الأشعرية ليس للعموم صيغة موضوعة، وهذه الألفاظ تحتمل العموم والخصوص، فإذا وردت وجب التوقف فيها حتى يدل الدليل على مايراد بها من الخصوص والعموم‏.‏ ومن الناس من قال لاتحمل على العموم فى الأخبار، وتحمل فى الأمر والنهى‏.‏ ومن الناس من قال تحمل على أقل الجمع ويتوقف فيما زاد‏.‏ والدليل على ما ذكرناه ان العرب فرقت بين الواحد والإثنين والثلاثة فقالوا رجل ورجلان ورجال كما فرقت بين الأعيان فى الأسماء فقالوا رجل وفرس وحمار، فلو كان احتمال لفظ الجمع للواحد والإثنين كاحتماله لما زاد لم يكن لهذا التفريق معنى، ولأن العموم مما تدعو الحاجة الى العبارة عنه فى مخاطباتهم، فلا بد ان يكونوا قد وضعوا له لفظا يدل عليه كما وضعوا لكل ما يحتاجون اليه من الأعيان‏.‏ فأما من قال انه يحمل على الثلاث ويتوقف فيما زاد فالدليل عليه ان تناول اللفظ للثلاث ولما زاد عليه واحد، فإذا وجب الحمل على الثلاث وجب الحمل على ما زاد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ألفاظ العموم‏]‏

ولافرق فى ألفاظ العموم بين ما قصد بها المدح أو الذم أو قصد بها الحكم فى الحمل على العموم‏.‏ ومن أصحابنا من قال إن قصد بها المدح كقوله عز وجل ‏"‏والذين هم لفروجهم حافظون ‏"‏ والذم كقوله تعالى ‏"‏ والذين يكنزون الذهب والفضة ‏"‏لم يحمل على العموم، وهذا خطأ لأن ذكر المدح والذم يؤكد فى الحث عليه والزجر عنه فلا يجوز ان يكون مانعا من العموم‏.‏

فصل ثان‏:‏ ‏[‏في ألفاظ العموم‏]‏

واذا وردت ألفاظ العموم فهل يجب اعتقاد عمومها والعمل بموجبها قبل البحث عما يخصها‏؟‏ اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو بكر الصيرفى يجب العمل بموجبها واعتقاد عمومها مالم بعلم مايخصها، وذهب عامة أصحابنا أبو العباس وأبو سعيد الإصطخرى وأبو إسحق المروزى إلى انه لا يجب اعتقاد عمومها حتى يبحث عن الدلائل، فإذا بحث فلم يجد مايخصها اعتقد حينئذ عمومها، وهو الصحيح، والدليل عليه ان المقتضى للعموم وهو الصيغة المتجردة ولايعلم التجرد الا بعد النظر والبحث فلا يجوز اعتقاد العموم قبله‏.‏

باب مايصح دعوى العموم فيه وما لايصح

وجملته ان العموم يصح دعواه فى نطق ظاهر يستغرق الجنس بلفظه كالألفاظ التى ذكرناها فى الباب الأول، وأما الأفعال فلا يصح فيها دعوى العموم لانها تقع على صفة واحدة؛ فاذا عرفت تلك الصفة اختص الحكم بها وإن لم تعرف صار مجملا‏.‏فما عرف صفته مثل ماروى ‏"‏ ان النبى صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين فى السفر‏"‏ فهذا مقصور على ما روى فيه وهو السفر، ولا يحمل على العموم فيما لم يرد فيه، وما لم يعرف مثل ماروى ‏"‏ انه جمع بين الصلاتين فى السفر ‏"‏ فلا يعلم انه كان فى سفر طويل أو سفر قصير إلا انه معلوم انه لم يكن الا فى سفر واحد فاذا لم يعلم ذلك بعينه وجب التوقف فيه حتى يعرف ولايدعى فيه العموم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في القضايا فى الأعيان‏]‏

وكذلك القضايا فى الأعيان لايجوز دعوى العموم فيها، وذلك مثل ان يروى ان النبى صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة للجار وقضى فى الإفطار بالكفارة وما أشبه ذلك فلا يجوز دعوى العموم فيها، بل يجب التوقف فيه لأنه يجوز ان يكون قضى بالشفعة لجار لصفة يختص بها وقضى بكفارة بإفطار فى جماع او غيره مما يختص به المحكوم له، وعليه فلا يجوز ان يحكم على غيره الا ان يكون فى الخبر لفظ يدل على العموم‏.‏ومن الناس من قال ان كان قد روى انه قضى بكفارة بالافطار وبالشفعة للجار لم يدع فيه العموم وان كان قد روى انه قضى بأن الكفارة فى الإفطار وبأن الشفعة للجار تعلق بعمومه لإن ذلك حكاية قول فكأنه قال الكفارة فى الإفطار والشفعة للجار‏.‏ وقال بعضهم إن روى انه كان يقضى تعلق بعمومه لأن ذلك للدوام ألا ترى أنه يقال فلان كان يقرى الضيف ويصنع المعروف وقال الله تعالى ‏"‏وكان يأمر أهله بالصلاة ‏"‏ و أراد التكرار‏.‏ والصحيح انه لا فرق بين ان يكون بلفظ أن أو غيره لأنه قد يروى لفظة ان فى القضاء بمعنى الحكم فى القضية المقضى فيها ولايقتضى الحكم فى غيرها، ولافرق أيضا بين ان يقول كان وبين غيره لأنه وان اقتضى التكرار إلا أنه يجوز ان يكون التكرار على صفة مخصوصة لايشاركها فيه سائر الصفات‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في المجمل‏]‏

وكذلك المجمل من القول المفتقر الى إضمار، لايدعى فى إضماره العموم، وذلك مثل قوله عز وجل ‏"‏ الحج أشهر معلومات ‏"‏ فإنه يفتقر الى إضمار؛ فبعضهم يضمر وقت إحرام الحج أشهر معلومات، وبعضهم يضمر وقت أفعال الحج أشهر معلومات، فالحمل عليهما لايجوز بل يحمل على ما يدل الدليل على انه يراد به لأن العموم من صفات النطق، فلا يجوز دعواه فى المعانى، وعلى هذا من جعل قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لاصلاة لجار المسجد الا فى المسجد ‏"‏ و‏"‏ لا نكاح الا بولى ‏"‏ و‏"‏ لا أحل المسجد لجنب ولاحائض‏"‏ و ‏"‏رفع القلم عن ثلاثة ‏"‏ وما أشبهه مجملا منع من دعوى العموم فيه، لأنه يجعل المراد معنى غير مذكور ويجوز ان يريد شيئا دون شيء، فلا يجوز دعوى العموم فيه‏.‏ ومن الفقهاء من يحمل فى مثل هذا على العموم فى كل ما يحتمله لأنه أعم فائدة‏.‏ ومنهم من يحمله على الحكم المختلف فيه لأن ما سواه معلوم بالإجماع‏.‏ وهذا كله خطأ لما بيناه من ان الحمل على الجميع لايجوز وليس هناك لفظ يقتضى العموم، ولايجوز حمله على موضع الخلاف لأن احتماله لموضع الخلاف ولغيره واحد، فلا يجوز تخصيصه لموضع الخلاف‏.‏‏.‏

باب القول فى الخصوص

التخصيص تمييز بعض الجملة بالحكم‏.‏ ولهذا نقول خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وخص الغير بكذا‏.‏ وأما تخصيص العموم فهو بيان مالم يرد باللفظ العام‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في دخول التخصيص فى ألفاظ‏]‏

ويجوز دخول التخصيص فى جميع ألفاظ العموم من الأمر والنهى والخبر‏.‏ ومن الناس من قال لايجوز التخصيص فى الخبر كما لايجوز النسخ، وهذا خطأ لأنا قد بينا ان التخصيص بيان مالم يرد باللفظ العام وهذا يصح فى الخبر كما يصح فى الأمر والنهى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في بقاء اللفظ العام واحدا‏]‏

ويجوز التخصيص الى ان يبقى من اللفظ العام واحد، وقال أبو بكر القفال من أصحابنا يجوز التخصيص فى أسماء الجموع الى ان يبقى ثلاثة ولايجوز أكثر منه‏.‏ والدليل على جواز ذلك هو انه لفظ من ألفاظ العموم فجاز تخصيصه الى ان يبقى واحد دليله الأسماء المبهمات كمن وما‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تخصيص العموم‏]‏

واذا خص من العموم شيء لم يصر اللفظ مجازا فيما يبقى وقالت المعتزلة يصير مجازا‏.‏ وقال الكرخى ان خص بلفظ متصل كالإستثناء والشرط لم يصر مجازا، وان خص بلفظ منفصل صار مجازا‏.‏ وهو قول القاضى أبى بكر الأشعرى‏.‏ فالدليل على المعتزلة خاصة هو أن الأصل فى الإستعمال الحقيقة والدليل على من فرق أنا قد وجدنا الأستثناء والشرط فى الإستعمال كغيرهما من أنواع الكلام فدل على ان ذلك حقيقة‏.‏ والدليل على الجميع ان اللفظ تناول كل واحد من الجنس فإذا خرج بعضه بالدليل بقى الباقى على ما اقتضاه اللفظ وتناوله فكان حقيقة فيه‏.‏

باب ذكر مايجوز تخصيصه وما لايحوز

وجملته انه يجوز تخصيص ألفاظ العموم‏.‏ واما تخصيص ما عرف من فحوى الخطاب كتخصيص ما عرف من قوله عز وجل ‏"‏ ولاتقل لهما أف ‏"‏ فلا يجوز لأن التخصيص انما يلحق القول وهذا معنى القول، ولأن تخصيصه نقض للمعنى الذى تعلق المنع به، ألا ترى انه لو قال ولاتقل لهما اف ولكن اضربهما كان ذلك مناقضة فصار كتخصيص القياس‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تخصيص دليل الخطاب‏]‏

وأما تخصيص دليل الخطاب فيجوز، لأنه كالنطق فجاز تخصيصه فإذا قال فى سائمة الغنم زكاة فدل على أنه لازكاة فى المعلوفة جاز ان يخص لازكاة فى المعلوفة فيحمل على معلوفة دون معلوفة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في النص‏]‏

وأما النص فلا يجوز تخصيصه كقوله صلى الله عليه وسلم لأبى بردة يجزئك ولايجزئ أحدا بعدك، لأن التخصيص أن يخرج بعض ما تناوله، وهذا لايصح فى النص على شيء بعينه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ما قع من الأفعال‏]‏

وكذلك ماوقع من الأفعال، لايجوز تخصيصه لما بينا فيما تقدم ان الفعل لايجوز ان يقع على صفتين فيخرج احداهما بدليل، فإن دل الدليل على انه لم يقع الا على صفة من الصفتين لم يكن ذلك تخصيصا‏.‏

باب بيان الأدلة التى يجوز التخصيص بها ومالايجوز

والأدلة التى يجوز التخصيص بها ضربان‏:‏ متصل ومنفصل‏.‏ فالمتصل هو الإستثناء والشرط والتقييد بالصفة، ولها ابواب تأتى ان شاء الله تعالى وبه الثقة‏.‏ وأما المنفصل فضربان‏:‏ من جهة العقل ومن جهة الشرع‏.‏ فالذى من جهة العقل ضربان‏:‏ احدهما ما يجوز ورود الشرع بخلافه وذلك مايقتضيه العقل من براءة الذمة فهذا لايجوز التخصيص به، لأن ذلك انما يستدل به لعدم الشرع، فاذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع‏.‏ والثانى ما لايجوز ورود الشرع بخلافه، وذلك مثل ما دل عليه العقل من نفى الخلق عن صفاته، فيجوز التخصيص به ولهذا خصصنا قوله تعالى ‏"‏ الله خالق كل شيء ‏"‏ فى الصفات وقلنا المراد به ما خلا الصفات لأن العقل قد دل على انه لايجوز ان يخلق صفاته، فخصصنا العموم به‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في مفهوم الكتاب والسنة‏]‏

وأما الذى من جهة الشرع فوجوه‏:‏ نطق الكتاب والسنة ومفهومهما وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره وإجماع الأمة والقياس‏.‏ فأما الكتاب فيجوز تخصيص الكتاب به كقوله تعالى ‏"‏ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ‏"‏ خص به قوله تعالى ‏"‏ ولاتنكحوا المشركات حتى يؤمن ‏"‏، ويجوز تخصيص السنة به‏.‏ ومن الناس من قال لايجوز‏.‏ والدليل على جوازه هو ان الكتاب مقطوع بصحة طريقه والسنة غير مقطوع بطريقها، فإذا جاز تخصيص الكتاب به فتخصيص السنة به أولى‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تخصيص الكتاب بالسنة‏]‏

فأما السنة فيجوز تخصيص الكتاب بها، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يرث القاتل ‏"‏ خص به قوله عز وجل ‏"‏يوصيكم الله فى أولادكم ‏"‏‏.‏ وقال بعض المتكلمين لايجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، وقال عيسى بن أبان إن دخله التخصيص بدليل جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإن لم يدخله التخصيص لم يجز‏.‏ والدليل على جواز ذلك أنهما دليلان أحدهما خاص والآخر عام فقضى بالخاص منهما على العام كما لو كانا من الكتاب‏.‏ والدليل على من فرق بين أن يكون قد خص بغيره أو لم يخص هو أنه إنما خص به اذا دخله التخصيص لأنه يتناول الحكم بلفظ غير محتمل والعموم يتناوله بلفظ محتمل، وهذا المعنى موجود وإن لم يدخله التخصيص‏.‏ ويجوز تخصيص السنة بالسنة، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ‏"‏ يخص به قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لاتنتفعوا من الميتة بشيء ‏"‏‏.‏ ومن الناس من قال لايجوز من جهة ان السنة جعلت بيانا فلا يجوز أن يفتقر الى بيان‏.‏ وقال بعض أهل الظاهر يتعارض الخاص والعام، وهو قول القاضى أبى بكر الأشعرى‏.‏ والدليل على ماقلناه يجيء إن شاء الله تعالى‏.‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في المفهوم‏]‏

وأما المفهوم فضربان‏:‏ فحوى الخطاب ودليل الخطاب‏.‏ فأما فحوى الخطاب فهو التنبيه، ويجوز التلخصيص به كقوله تعالى ‏"‏ فلاتقل لهما أف ولاتنهرهما ‏"‏ لأن هذا فى قول الشافعى رحمة الله عليه يدل على الحكم بمعناه إلا أنه معنى جلى وعلى قوله يدل على الحكم بلفظه فهو كالنص‏.‏ وأما دليل الخطاب الذى هو مقتضى النطق فيجوز تخصيص العموم به‏.‏ وقال أبو العباس بن سريج لايجوز التخصيص به، وهو قول أهل العراق لأن عندهم أنه ليس بدليل، والكلام معهم يجيء ان شاء الله تعالى، وعندنا هو دليل كالنطق فى أحد الوجهين وكالقياس فى الوجه الآخر وأيهما كان جاز التخصيص‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تعارض لفظين‏]‏

اذا تعارض لفظان فلا يخلو إما ان يكونا خاصين أو عامين أو أحدهما خاصا والآخر عاما أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه‏.‏ فإن كانا خاصين مثل ان يقول لا تقتلوا المرتد واقتلوا المرتد وصلوا مالها سبب عند طلوع الشمس ولاتصلوا ما لاسبب لها عند طلوع الشمس فهذا لايجوز ان يرد إلا فى وقتين ويكون أحدهما ناسخا للآخر؛ فإن عرف التاريخ نسخ الأول بالثانى، وان لم يعرف وجب التوقف‏.‏ وان كانا عامين مثل ان يقول‏:‏ من بدل دينه فاقتلوه ومن بدل دينه فلا تقتلوه وصلوا عند طلوع الشمس ولا تصلوا عند طلوع الشمس فهذا ان أمكن إستعمالهما فى حالين أستعملا كما قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد ‏"‏ وقال ‏"‏ شر الشهود من شهد قبل أن يستشهد ‏"‏ فقال أصحابنا الأول محمول عليه اذا شهد وصاحب الحق لايعلم ان له شاهدا فإن الأولى ان يشهد وإن لم يستشهد ليصل المشهود له الى حقه، والثانى محمول عليه اذا علم من له الحق ان له شاهدا فلا يجوز للشاهد ان يبدأ بالشهادة قبل ان يستشهد، وإن لم يمكن استعمالهما وجب التوقف كالقسم الذى قبله‏.‏ وان كان أحدهما عاما والآخر خاصا مثل قوله تعالى ‏"‏ حرمت عليكم الميتة ‏"‏ مع قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أيما إهاب دبغ فقد طهر ‏"‏ وقوله ‏"‏ فيما سقت السماء العشر ‏"‏ مع قوله ‏"‏ ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ‏"‏ فالواجب فى مثل هذا وأمثاله ان يقضى بالخاص على العام‏.‏ ومن اصحابنا من قال إن كان الخاص متأخرا والعام متقدما نسخ الخاص من العموم بقدره بناء على ان تأخير البيان عن وقت الخطاب لايجوز، وهذا قول المعتزلة‏.‏ وقال بعض أهل الظاهر يتعارض الخاص والعام، وهو قول أبى بكر الأشعرى‏.‏ وقال أصحاب أبى حنيفة إن كان الخاص مختلفا فيه والعام مجمعا عليه لم يقض به على العام، وإن كان متفقا عليه قضى به‏.‏ والدليل على ماذكرناه ان الخاص هو أقوى من العام لأن الخاص يتناول الحكم بلفظ لا احتمال فيه والعام يتناوله بلفظ محتمل فوجب ان يقضى بالخاص عليه‏.‏ وأما اذا كان كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه يمكن ان يخص بكل واحد منهما عموم الآخر مثل ان يروى ان النبى صلى الله غليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس مع قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها ‏"‏ فإنه يحتمل ان يكون المراد بالنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس مالاسبب لها من الصلوات بدليل قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها ‏"‏ ويحتمل أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها ‏"‏ فى غير حال طلوع الشمس بدليل ما روى ان النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس فالواجب فى مثل هذا أن لايقدم أحدهما على الآخر الا بدليل شرعى من غيرهما يدل على المخصوص منهما أو ترجيح يثبت لأحدهما على الآخر كما روى عن عثمان وعلى رضى الله عنهما فى الجمع بين الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى‏.‏ وهل يجوز ان يخلو مثل هذا من الترجيح‏؟‏ من الناس من قال لايجوز، ومنهم من قال يجوز واذا خلا تعارضا وسقطا ورجع المجتهد إلى براءة الذمة‏.‏